احدث الاخبار
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / سَلامٌ عليك.. يا نصر

سَلامٌ عليك.. يا نصر

يوم استيقظتَ طفلًا بكيتَ بكاءً ونشيجًا.. تحملك أمك (وهنًا على وهن) مُنسلّةً بجسدها الطّري من بين جبالِ (وادي العور) القاحلة إلى شرفةِ الحقل.. مواجهةً كلّ العواصفِ المدمرةِ التي تُنْذر بالفقد، متخطيةً كلّ البراكين المحمومة التي أوقدتْ العذاب.. من وجهها القلق تَستل ابتسامة الوعد.. تدنو من الشّمس والعتبات البيضاء.. تنظر إلى الأرياف المرحة.. تُنْذرك للمطر، تهدهدك بماء الورد، والبخور، والرّجاء، والشّجن.. حيث الأمل والرّيحان والشّهد، وتعود بك هانئًا إلى النّوم.
صباح كل يوم تزيح الجفاف عن نافذة وحدتك، تُلقي نظرةً على ما تبقى من ظلامٍ، وتنفضُ اليباس عن أغصانِ أشجارِ طفولتك التي جرفها الطّوفان.. فترتسمُ على دمعةِ خديك ابتسامة عصفور، أو اندلاع غيمة مُثْقلة؛ فتملأ الأفق بوابلٍ تحلمُ الحقولُ بمعانقةِ عين (بوسمان)، وصيبًا يُبهجُ الحقولَ بالخيرِ العميم.
كانت المسافةُ، كل أنواع المسافة ما بين قلعة (الجلالي)وبطاح (مسقط) تلوح إثارةً ودهشةً وغموضًا؛ لاقتسام أدوار المجد والصعود والتوسع خارج الحدود التي تخضّبت بزكاء روح (والدك) بحرًا من الدّم، لغة سيّجها التّاريخ..مخترعة الورق والحبر والبارود بلوعةِ الفراق، ونحيبِالثّكالى، وفيضِ التجذر، وحنين الشّوق، فغدا إيقاع نبضاتها تطريزة من ضريبةالعشق..
كنتَتتطلع في أمواجِ البحر مستعيدًا موجة ساكنة، تقودكإلى الضفة الأخرى بطمأنينة قادمة مع نسيم البحر.. تهجمُ ذكرى افتراس الزّهر يوم كاد أنْ يُشرق بأشعة الشمس. وهبتَك الجمال، ومنحتك القوة؛ ولم تُدرك أنّها أثقلتَ عليها بقلب لا يستريح… حتى لم يبقَ سوى طيفِ الظل، وأشلاءٍ من ذاكرةِ الأمس.
كانت المسافة أكثر نزوعًا، وكانت المساحة أكثر انزياحًا لعنف الاكتساح الذي لا يعرفُ هوادة، ولا رحمة للأرض وممالكها أمام قيد الحبل، وبركة الدم. دموع الظلمة، وذبول الضياء في كأس المأساة لا يقف أمام سطوته وعنفه النابعين من إيمانٍ مقدسٍ بمبادئ الروحِ والفكر.حتى قضوا حرقًا،وطعنًا بملء الإرادة والاختيار، وهم يكتسحون البراري والمزارع .. فارتقوا معارج السّماوات السّبع على متن قطار رحلة الغياب المفاجئ، وارتسمتْ على شفتيك ابتسامة الأبدية..
***
سلامٌ على قلبك.. يا نصر
دارتْ السّنون، تعاقبتْ الطفولة حيث المدرسة القديمة، والشوارع الضيقة بمشهدٍلملاك جاهز زفافه إلى العرش والضياء، إلى النجم الذي ارتقى من عبق التراب للعلياء. ثمة شغف ينمو ويكبر بمواجهة حلم التوحد يفضي بـ(أرضك) إلى التوحش، وهي تبحث في دياجير الظلام عن نور الحبيب المفتقد. تشتاق إليه، وإلى المكان الذي ساق أبناؤه إلى المذبحة.
ها أنت ذا ترحل مع الراحلين، وتطفئ كل الشموع.. كل الأحلام، كل الرؤى والآمال التي أوقدتها (فوز) لتنير حياتها. حلّقتَ مع اليمام في خيالك طفلًا، وفي المروج تتنزه كسرب ملائكة رحيمة، وحين تفزُّ من نومك يجفل اليمام من سرب نسور كاسر.
ترحل وتتلاشى بسلام أمام عظم المأساة التي تجذّرت منذ أنْ تخلّقت نطفة في ظلمات ثلاث مع هول الفجيعة التي رافقتها… تتلمسُ الضوء بأصابعها المتيبسة، ترنو لفرحة الضاحك بعينين اغرورقتا بالبكاء من رائحة الكفن الأبيض، وغمّازتي وجنتيك البهيتين بابتسامة صادمة بالرعود والبروق والآلام… كأنّ الهواء يأتي من السماء.. يحمل رائحة وحشة الليل، وصمت العدم، وحزن المنفى، وارتجافة الأشجار في العراء.
نذرتك بذرة للمطر.. مطر لا ينقطع طوال الليل، ديمة تتلوها أخرى أكثر كثافة، أعمق شبقًا إلى المجهول!!؛ نصبتك غيمة حتى استحالت إلى جداول تتنزه في مراعي السماء، وعلى أديم الأرض المستسلمة.. تصيح بصوت أمومتها المفجوع: لا تذهب بي بعيدًا أيها المساء؛ لكنّ النهار يمر بها جارفًا ويطويها الليل على أحزانها، حتى أطبقت عليها برودة الأشياء، مع من غابوا عن العيون خلف الغيم.
***
سلامٌعلى روحك.. يا نصر!!!.
وعلينا السلام من الفقد…
فلا شيء بعدك لدى (فوز) يستحق الذّكر، ولا التسطير..
ها أنا ذا.. أنظر إليها تلملم الوجع بعينين يائستين، وشفتين مرتجفتين.أتأملها، أقف أمام حطام وجهها الذي عرّته السّنون، وجسدها الذي خلّدته الأساطير يروي جفاف الأيام، وحكايات المكانبدفق حنان يتوارى له مصب الوادي.. تتجرد أمام الليل المضاء بنور جسدك والفقد.. تنسل من بين ركام الحزن، وتؤثث الوجع..تسرح فيها اليد العطشى ارتعاشة النجم في الأعلى… وتشتم قارورة عطرك والدم.
ترنو إلى الجبلِ.. تتنزه الغربان فوق سفوحه.. فتتدحرج قامتك لتستقر في قعرِ الظّلمة..وفي حرقةِالعتمة، وبلا ضجيج تتوارى من بين زفرات الوجع.. خطوة، خطوة؛ لتعبرَ البلاد للمرةِ الألف على جسرِ الآلام.. تؤثثُ الفقد، وتزرعُ الأمل على ثغور اليتامى بقلبها الكبير وحنوها الفذّ. بلا ضجيج، تتذكرُذاك الطفل بضحكته التي ظلتْتتوشح بأزاهيرها على السطح، حيث المواقد المهجورة، والريح تعصف بالفراغ.. حتى نسي الليل ولوجه هناك، بينما لم يجفْ ثوب القمر المعلق على غصن شجرة العائلة. وحده الليل ظلَّ صامتًا لتكون سماء الوطن لائقة بك.
أيتها الغربان، يا رفيقة عرسها البعيد.. هل تتذكرين الآن “فتاة” بأسمى ما تكون الذكرى؟
فتاة كانت ترتجي عودة فارسها؟.. تناجيه.. تناغيه.. تناديه
تعالْ، ارتمِ في قلبي، واسكن حنايا أضلعي
تعالْ مع الشتاءِ، ورممْ ما في قلبي من غيابوفقد.
تتوسلُ المطرَ أنْ يهطلَ قربَ بيتها بغيمةٍ تُبشرها بعودةِ الحبيب المرتقب.
تلمحُ الثّلجَ يتساقطُ في الجبال البعيدة..
تصيحُ.. “لا أحتمل شتاءً آخر من دونك، ولا صيفًا، ولا ربيعًا، ولا خريفًا”
تظل تهذي.. متى تفتح بابي وتفاجئني بعودتك؟!!
يتشرد الحنين فيسكن أصقاع الأرض، وبيوتًا غير مهجورة
لا أبواب لها، ولا نوافذ.. وتبقى في تيه مستمر
تلتحف الضّباب.. وتتلثم عاصفة الصحراء
يتسلل الوجع إلى كل ثناياها…
فتعيد مشهد الفقد والغياب.
ومسلسل الوجع والألم، مع حالات اليتم المتكرر..
تسللالغبار إلى كل ثناياها.. فتلثمت، والتحفت بالصبر.
فهل من شيء يستحق الذّكر…!!
وحتى متى نتذكر راحلًا غير آيب بنفوسٍ مطمئنة؟!!
وهل أحصينا ما تبقى لنا من نجوم آيلة للسقوط؟!!
هكذا نطق الظلام بكل شيء
نسينا شموسنا، حتى كادتْتشرب من كفها الصلوات
وأدرنا للذكريات ظهورنا المهترئةمما قصم الظهر..
يا إلهي… ضجَّت القبور بأجساد (أهلي) اللينة المبعثرة، ومن خلف ليل المقبرة تتراءى لي أرواحهم على المطايا التي نزحتْ بهم بعيدًا بعيدًا، كأنهم أقمارٌ على صفحة السماء وبريق النجم.

د. عزيزة بنت عبدالله الطائية


المصدر: اخبار جريدة الوطن

عن المشرف العام

التعليقات مغلقة

إلى الأعلى