في إطار نقد وتقييم واقع العمارة العربية المعاصرة، نجد ثمة حلقات غير منتهية من الجدل الساخن في الأوساط الأكاديمية ومنابر الرأي والثقافة على الساحة المعمارية العربية. وتتجسد هذه الأطروحات الفكرية في مجموعة من التساؤلات التي غدت وثيقة الصلة بمحاور أساسية، وهي نقد وتقييم الطروحات الفكرية في المشاريع العمرانية. واقع النقد المعماري العربي والنشر العمراني وأسس التصميم المعماري العربي كعملية واعية.
تقييم الطرح الفكري في العمارة العربية
في إطار العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة كتيارين متناقضين يتعايشان على الساحة المعمارية العربية، يتبين للمتأمل لما يجري في الخطاب المعماري تساؤلا مطروحا برسم الإجابة الدائمة يعكس التوجهات المعمارية السائدة. هذا التساؤل يجسد أطروحة مفادها أن التراثيين يقفون عقبة في وجه التقدم والمدنية. فالتكنولوجيا الحديثة تبدو بمنظارهم كإحدى علامات التغريب والتحول من القديم المقدس الذي ينبغي التمسك به إلى الحديث المستغرب والتابع. وفي الوقت نفسه وبرغم نزعة الهروب نحو الماضي يتهم التراثيون بالتناقض بتقبل مظاهر الحداثة. فلدى التراثيين يرى النقاد أنهم من جهة ينادون بالتراث كفكر نظري على أنه حل لمشكلات المجتمعات وأنه كان البلسم السائد في الماضي، وفي نفس الوقت تدل المشاهدات والدراسات أنه، والتراث المعماري كمثال تطبيقي ملموس، يتجسد في أقلية طبقية مقصورة على الأغنياء، برغم أن التراث العمراني هو “شعبي” بأسسه وطبيعته.
وفي الحقيقة فهذه الملاحظات والأطروحات تستند إلى جانب من الصحة في نقد ما يجري على الواقع وساحة العمارة العربية المعاصرة. فالعمارة، عموما، كانت تاريخيا ولا تزال مهنة برجوازية تلتصق بالأغنياء وطبقة الحكم. فالعمارة التي تذكرها كتب نظريات وتاريخ العمارة هي “عمارة الأغنياء” وعمارة صرحية صنمية تخلّد مآثر الثراء وتعكس مظاهر الرفاهية بالثقافة والحضارة وتعبّر عن كبرياء ومجد الأمم والشعوب من خلال الصروح المعمارية الباهرة. وفي سبيل ذلك فقد كرست الأمم، من خلال عبقريات معمارييها، مآثر خلدتها مواد بناء تعبر عن تحدي وديمومة مقابل الزمن، استعملت فيها الحجارة الضخمة وجلبت من مناطق جغرافية بعيدة لم تتوفر في الأقاليم التي بنيت فيها مما يعكس الرغبة في الخلود التاريخي وتحدي عقبات المكان والجغرافيا. فمثلا استقدم الرومان لبناء مبنى البانثيون الشهير زمن هدريان أعمدته الضخمة الشهيرة من قلب الصحراء المصرية من موقع يبعد أكثر من 150كيلومترا جنوب القاهرة حيث تم نحت الأعمدة الضخمة في الموقع قبل شحنها برا لمسافات شاسعة للإبحار بها بعد ذلك بالسفن الضخمة من ميناء الإسكندرية لروما.
ولذلك ونظرا لهذا التباين الشاسع بين العمارة الصنمية الصرحية التي مارستها مختلف الشعوب والتي نزعت من خلالها لتكريس هيمنة ثقافية حضارية عكستها العمارة كفن تطبيقي، وبين العمارة البيئية، يبدو مهما التمييز بين مفهومين: الأول هو “العمارة” أو (Architecture) والتي هي علم وفن يعتمد التخطيط المسبق. الثاني وهو ما يطلق عليه “البناء” أو (Building) والتي يندرج تحتها الحاجة للمأوى عامة والتي مارسها الإنسان على مدار التاريخ، ويمكن ـ جدلا- أن تكون “عمارة المجتمع”. حسن فتحي حاول أن يطوع المفهوم الأول للعمارة ليصبح هو المفهوم الثاني أو “العمارة المجتمعية للطبقة الفقيرة”. ورغم جدلية منهجية حسن فتحي وفشله أو نجاحه، إلا أن تغيير المفهوم الأول ليصبح هو الثاني غير ممكن بمفاهيم المجتمعات الحضرية الحالية. ومع تعقد الحياة الحديثة فإن العمارة تنحو نحو جانبها المهني أكثر فأكثر تاركة مفاهيم العمارة غير المهنية أو مسبقة التخطيط أو التفكير المنظم ضمن الماضي والفكر النظري. ما يمكن القيام به هو توظيف مفاهيم وآليات من عملية البناء بالمفهوم الثاني لتخدم العمارة بجانبها المهني الأول، وليس التغني بمنهجية بناء أنتجها الإنسان في بيئات أولية لأغراض أولية لم تعد تواكب التعقيدات المجتمعية والإقتصادية المعاصرة.
فالعمارة كانت ولا تزال، مهنة مرتبطة بطبقة مستثمرة واقتصادية. وغالبا ما ينظر هؤلاء للعمارة كوسيلة للثراء وكسوق للأسهم أو كسوق تجاري للاستثمار في السمسرات والعمولات المبطنة واتخام الأرصدة البنكية. وفيما تطرح على المنابر الثقافية والمنتديات الأدبية مسائل ثقافية تخص العمارة، حيث يندب حظ العمارة العربية المعاصرة وينعى التراث، هناك في ذات الوقت صفقات تتم كل لحظة لإرساء العقود بالمليارات على مكاتب أجنبية لا يعدو حجم المكتب منها صالة صغيرة تقبع بها سكرتيرة تعبث بالإنترنت ورسام وحيد أكل عليه الدهر وشرب، فيما يبحث مدير المكتب عن معماري ذي خبرة بعمارة الشرق الأوسط، أو عمارة المجتمعات العربية، لتصميم “مدينة” معمارية في الخليج العربي تم توكيل “مكتبه”لتصميمها والإشراف عليها. هناك صراعات تدور بين صناع قرار ومستثمرين وسماسرة وحيتان كي تتوالد ملياراتهم ولا تعني العمارة بالنسبة لهم أكثر من صفقات تجارية وعمولات بالباطن دون عمل شيء، أما مستقبل العمارة والتراث والحداثة أو الأبنية العالية وناطحات السحاب فلا تعني شيئا لهم سوى “أدبيات ومساجلات معمارية”في عصر المادة.المالك وصانع القرار كان وراء المشاريع المعمارية المتميزة، وهو نفسه يقف وراء الكوارث البيئية التي تنتج باسم العمارة في أماكن أخرى، بالإضافة إلى عملية التحكيم الواعية، وغير الواعية، التي تتحكم في إعطاء هذا المشروع لهذا الاستشاري أو ذاك. وبالنتيجة فالمعماري في معظم الحالات أصبح مسيرا تتقاذفه عوامل اقتصادية وصناعة قرار وسياسات أكبر منه تحكمها جداول زمنية مصلحية وتحت مظلة “البزنس”. ويبقى الكلام عن المشاريع السكنية الصغيرة التي لا تعدو كونها مسرحا للتدرب على التصميم بعد الجامعة. هذا هو واقع العمارة العربية المعاصرة إلى حد كبير!
ومن أكثر المسائل التي يثيرها نقاد العمارة التراثية هي إدعاءهم المستمر بعدم قدرتها على التجدد والتطور بمتغيرات العصر والتي تظل على الدوام موضع جدل ساخن. فالتكوينات الفيزيائية التي تجسدها المساقط الأفقية تأخذ ملامحها من شكل المدينة العربية التقليدية بشكل يكاد يكون مفتعلا ومتكررا بما يبعث على الرتابة والجمود والملل. كما أن الاستعارات الشكلية كالانحناءات المنكسرة البصرية في المدينة وغيرها تنزع نحو الاستعارات العاطفية أكثر من الغايات الوظيفية. وبالرغم من هذا النقد الذي يبدو صحيحا في أكثر من حالة، إلا أنه من المهم الإشارة هنا أن استعارة مفردات من التراث أحيانا ما تكون مفيدة في بعث قيم عاشت في القديم حتى وإن بدت في ظاهرها شكلية، ولا نقصد ذلك على إطلاقه. فلا يجب ألا ننسى أن المفردات التراثية تم إنتاجها في مجتمعات تقليدية وبذالك فلم تكن ناتجا فحسب إنما، وهو المهم لنا هنا، كانت أداة لإعادة بعث القيم المجتمعية وتكريس المفاهيم الأصيلة بها. وهكذا يخفق الحداثيون في إدراك حقيقة الغاية من تبني أطروحات التراث والعمارة التراثية بالمجتمع، حيث تكون عملية باتجاهين؛ فإعادة توظيف بعض المفردات التراثية (ولا نعني هنا المفردات السطحية على مستوى الواجهات أو المشربيات، إنما المقصود وبالتحديد القيمة الأحيزة الفراغية وتكويناتها العضوية) يسهم في بعث هذه القيم والمفاهيم التي تنتمي للمجتمعات العربية التقليدية التي ترعرعت بها هذه المفردات. أما أن تنحصر الاستعارات التاريخية في المشربيات والعناصر الشكلية فهذه قراءة سطحية تتمثل”بالقراءة التراثية للعصر”وهي أخطر أنواع العودة للتراث بحسب تعبير الجابري. فهناك عودتان للتراث: عودة “احتماء” في مقابل الآخر، وعودة”نهضة”وارتكاز منبعها الشعور بأهمية التراث.الأولى تحدث في حال الشعور بالتهديد الخارجي من تداخل ثقافي واستعمار، أما الثانية فمنبعها وطني ذاتي. المشكلة ليست قدرة العمارة العربية على التجديد، المسألة هي في قدرتنا على قراءة التراث بمنظار العصر أو ” القراءة التراثية للعصر”.
وينزع البعض في معرض الجدل الثقافي الساخن بعقد المقارنات السطحية مع الثقافات الأخرى ومدى نزوعها نحو الحداثة دون أن يؤثر ذلك في بنيتها الثقافية الجينية. لكن هذه المقارنات لا يمكن عقدها بهذه البساطة أو السطحية. فاليابان، مثلا، قوة عالمية ـ عدا عن كونها قوة اقتصادية فاعلة ـ ليست مستهدفة كما الوطن العربي لقرنين من الزمان وأكثر، ولم تتعرض لغتها لتداخلات ممنهجة مع غيرها من لغات العالم. وفي ذات الوقت نرى دولا عربية وقد دق الاستعمار لغات دخيلة “كأسافين” ثقافية قاتلة بحيث أصبح من الصعب التفاهم بين الأشقاء العرب من المشرق والمغرب باللغة العربية. هناك مظاهر للتراث أعمق من مفردات معمارية استهدفها المستعمر وتحتاج لإعادة بعث في مجتمعاتنا العربية قبل الكلام عن أية نهضة ممكنة أولها “اللغة”والتي بها ومن خلالها نفكر كأداة ومحتوى. فبها نصف العالم من حولنا وهي في ذات الوقت تشكل محتوى فكرنا. العمارة فى مجتمعنا العربي أصبحت عمارة أفراد على نقيض طبيعة المجتمعات العربية التي تقدس العائلة. هناك مفارقات أساسية بين الاثنتين تراوح بين معاهد العلم التي تسود فيها نوع من البيروقراطية والإرهاصات التي تحول دون الإبداع على مستوى الطالب أو الأستاذ. ففي الغرب يعني المقعد الأكاديمي بالنسبة للأستاذ البحث العلمي الدؤوب والتفرغ الكامل له بحيث يصبح نمط حياة مهنية وأكاديمية وبحيث ينتج الأستاذ وعلى مدى عشرين أو ثلاثين عاما موسوعة بحثية في مجاله أو يؤسس لنظرية ما قبل تقاعده. والدوافع والحوافز لذلك كثيرة تتنوع بين المادة والحفاظ على الكرسي بالجامعة وبين حب البحث وتحقيق الذات.
ويظل السؤال قائما برسم الإجابة وفعالا في تحريك عجلة الحوار الثقافي بالمجتمعات العربية وبخاصة في ساحة الخطاب المعماري المعاصر، حول نفعية وجدوى العودة للتراث في العمارة العربية المعاصرة وبخاصة في مقابل تيارات الحداثة المعمارية الغربية التي اجتاحت العالم العربي اليوم. فالصراع بين الذات والآخر بدأ مع مطلع القرن الماضي ولا يزال وله أشكال عدة. والمشكلة متعددة الجوانب وليست متعلقة فقط بقدرة التيار التراثي على مجابهة المد العالمي، إنما لها متعلقات متشابكة، أهمها قدرة العوامل الاجتماعية في تفعيل التراث ليقوم بدوره في إعادة قراءة أبجديات القيم المجتمعية من جديد ـ والتي يناقش بعض علماء الاجتماع العرب المعاصرون أنها تعاني من “تحولات”جذرية على مستوى الأسس تبعا لتداخلات العولمة والحداثة العالمية. فالمشكلة ذاتية قبل أن تكون مع الآخر إذ ما جدوى بعث قيم تراثية في مجتمعات لا تنتمي لها؟ وينزع البعض للتساؤل فيما إذا كانت العولمة هي المسؤول عن سلب مجتمعاتنا العربية كإطار عام، وبخاصة ما نرى على الساحة المعمارية من تغريب فكري وثقافي. ولكن الإجابة عن هذا التساؤل الجدلي تكاد تنحصر في فكرة أن العولمة اقتحمت مجتمعات تعاني أصلا من غياب البوصلة الفكرية في بعض الأحوال، وفي أحوال أخرى كان هناك توجه ومطلب أصلا نحو الحداثة، لذلك فسؤال العولمة مرتبط بالحالة الفكرية والثقافية التي يعيشها المجتمع. فالاتجاه التراثي يمثل الحلم بالماضي بما مثله من انعكاس للمجتمع وقيمه التي أفرزته، وهو يمثل الحنين لما يغيب تدريجيا عن الواقع المعاصر. الاتجاه الحديث يعكس الانفتاح على العالم بمعطياته البراقة والتكنولوجيا والتقدم العلمي. وبين هذا وذاك تتنازع الفرد اليوم نزعات الماضي ومعطيات الحاضر. وللحديث بقية
مراجع المقال:
الموسوعة الحرة ويكييديا على الرابط التالي (http://en.wikipedia.org/wiki/Pantheon،_Rome). وانظر كتاب (Fletcher. B، 1975، ‘History of Architecture’، 18th Edition، The Athlone Press، University of London)
في تمييز التعريف الأساسي بين العمارة(architecture) وبين البناء (building)، أنظر الفصل الأول من كتاب (Bill Hillier، Space is the Machine، Cambridge University Press، 1996).
د. وليد أحمد السيد
المصدر: اخبار جريدة الوطن