احدث الاخبار
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / التقاعد فضاء واسع من الحرية والاستمتاع بمباهج الحياة

التقاعد فضاء واسع من الحرية والاستمتاع بمباهج الحياة

سعود بن علي الحارثي

إنها الحرية توجهنا إلى أجمل ما في هذه الحياة؛ ممارسة الهوايات ـ التفكر والتدبر في شؤون الحياة ـ السياحة في بلاد الله ـ التفرغ للعبادات والأسرة، والتواصل مع الأهل والمعارف والأصدقاء ـ التفكير في القيام بأعمال ومبادرات ومشاريع مفيدة ـ الاهتمام بالصحة وممارسة الرياضة… إلخ.
بناء على الأوامر السامية القاضية بإحالة “ما لا يقل عن ٧٠% من الموظفين العمانيين ممن تجاوزت خدماتهم ٣٠ سنة إلى التقاعد …” و٢٥ سنة لبعض الوظائف، وما أثارته من حوارات في وسائل التواصل، وتراشق بين عدد من الباحثين عن عمل والشباب وفئة واسعة من المجتمع الذين وجدوا في الأوامر السلطانية فرصا شاغرة لوظائف قادمة، وضرورة تمليها التطورات والظروف الراهنة، واستمرارا للسياسات الإصلاحية التي يتبناها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وممن شملتهم الأوامر السامية وشعروا بشيء من الإجحاف كونهم أجبروا على التقاعد، أو صعب عليهم ترك المنصب ووداع الوظيفة الحكومية بشكل مفاجئ، فيما بعضهم يعاني من ديون وإعالة أسرة كبيرة ولديه التزامات، وآخرون أدمنوا العمل درجة الهوس وارتبطوا به ارتباطا فكريا، ولا يملكون في المقابل برنامجا أو هوايات ومشاريع خارج الوظيفة الحكومية ولم يضعوا هدفا لمرحلة ما بعد التقاعد، فأصابهم الواقع الجديد والمفاجئ بالإحباط والضغط النفسي… وبما أنني ارتبطت بالوظيفة لمدة ثلاثين عاما أكملتها في عام ٢٠١٥، ترجلت بعدها عن صهوة المنصب الذي أشغله، تاركا الفرصة لغيري، والانصراف إلى ممارسة هواياتي والاستمتاع بالحياة والحرية. وتفرغت لإعداد ونشر كتابي “…… ذكريات ثلاثة عقود “١٩٨٥-٢٠١٦م” الذي ضمنته تقييما “للأشهر الأولى من مرحلة التقاعد” في فصله “السابع عشر”، وعلى ضوء التغريدة التي أطلقتها قبل عشرة أيام ونقلت بعض عباراتها من هذا الفصل، وما لاقته من زخم وتعليقات وتأييد، فقد رأيت من المناسب نقل التجربة وتضمينها هذا المقال، مواكبة مع تنفيذ الأوامر السامية الخاصة بالتقاعد: تقول فيلسوفة الأخلاق الأميركية جين كازيز التي كتبت كتابها الشهير (أهمية الأشياء: الفلسفة والحياة الخيرة)، (إننا لا نفحص حياتنا في كل يوم؛ تمر بعض أسعد لحظات حياتنا ونحن على حال لا تسمح بفحص أي شيء، فإنك إذ تنظر إلى طفلك، أو ترى منظرا من فوق قمة جبل، أو تشاهد سيارتك الجديدة، أو أي شيء آخر يمتعك، تقول لنفسك، إنني لا أريد أكثر من هذا، أو إنك لا تفكر في أي شيء فقط أنت تستمتع). الكاتبة الأخرى أريانا هوفينجتون والتي (انهارت في مكتبها فجأة تحت وطأة تزاحم الأشغال وإقبال جهنمي محموم، على العمل الموصول. وكان أن انكسر عظم وجنتها… كانت تشتغل ثماني عشرة ساعة في اليوم لكي تطور شركتها ولكي تجد مستثمرين جددا…)، هذه الحادثة أشعلت تفكيرها وجعلتها تعيد حساباتها وتقيم الساعات التي تمضيها كل يوم في العمل ووصلت إلى قناعة بأنها تستهلك جسدها وتهدر ساعات عمرها وتفوت كل ما هو جميل في حياتها، وأبلغتها المراجعة والتساؤلات التي طرحتها على ضوء المحاور التي استعرضتها إلى (نظرية المعيار الثالث للنجاح، التي تنم عن الحاجة إلى تجاوز المعيارين الماديين الصرفين: الجاه الذي لنا، والمال الذي جمعنا)؛ لتصل إلى نتيجة أنهما أشبه (بالجلوس على مقعد ليس له إلا قائمان؛ ففي لحظة معينة، لا بد للجالس عليه من السقوط، وقد يكون سقوطا مدويا)، وعلى ضوء ما توصلت إليه من خلاصة ممثلة في الوصول إلى (المعيار الثالث) الذي يعتمد على (الأنشطة التي تستهوينا، تلك اللحظات التي نمضيها مع من نؤثر، تلك الأفعال الإحسانية التي نستلذ بمزاولتها، تلك الأحاسيس بالإعجاب التي نبديها أمام منظر أو لوحة…)، وقد طلعت للقارئ بكتابها الفريد (أن نزدهر) أصبح في عدة أشهر معدودة واحدا من أكثر الكتب مبيعا. اعتمدت في إعداده على مجموعة من الركائز، وفي واحدة منها تقول: (الركيزة الثانية هي استعادة ما فقدناه من قدرة على الاندهاش والإعجاب أمام أمور الحياة التي نصادفها. لقد أمسى إنسان اليوم ـ تحت تأثير الضغط ـ يحيا ما صار يسمى جوعا إلى الوقت. يحيا هو بشعور دائم بألا وقت له، والحال أن من شأن هذا الجوع إلى الوقت أن يحرمنا من فضيلة إبداء التعجب من تلك المعجزات الصغرى التي تحدث في حياتنا وتحيط بنا…). كان لا بد من اقتطاف هذه الزهور التي تضوع عطرا، واستلهمها مبدعوها من عصارة تجاربهم للحياة؛ لكي أتمكن من تقديم صورة معبرة عن الدقائق والساعات التي أعيشها، حيث الاندهاش المتواصل والتعجب المتجدد من الصور والمناظر واللوحات الجمالية التي كانت أمامي وبقربي، فلا أراها ولا أحفل بها ولا أعيرها اهتماما وكأنها بلا قيمة، واليوم كأنني أكتشفها للمرة الأولى. بعد انقضاء عدة أيام من عمر المرحلة الجديدة التي لا بد للإنسان من أن يصل إليها طبيعيا ببلوغه سن التقاعد، أو رغبة منه بتقديم استقالته كما هو الحال معي، وفي صباح مفعم بالأمل والنشاط تغطي سماءه الغيوم، حملت عدة القهوة والشاي وكتابي إلى شاطئ العذيبة، افترشت رملته الناعمة واستمتعت بنسمات البحر المنعشة، كان المكان برماله وشاطئه وحديقته وأمواجه الهادرة وفضائه الواسع خاليًا من البشر، وخلت لحظتها أن كل ما أستمتع به هنا هو ملك لي لا يشاركني فيه أحد سواي، هذا المتنزه الخلاب الذي لا يبعد عن منزلي ـ الذي انتقلت إليه منذ عشر سنوات ـ أكثر من ثلاثمائة متر لم أزره من قبل زيارة استرخاء وتأمل ومطالعة، ولم أقضِ فيه ساعات من الاستجمام والسعادة والمتعة والقراءة كما أجده وأستشعره وأستمتع به في هذه اللحظات، فلماذا غاب عن بالي كل هذه السنوات؟ ألم يكن موجودا؟ فأين كنت منه إذن؟ إنها الحرية توجهنا إلى أجمل ما في هذه الحياة؛ ممارسة الهوايات ـ التفكر والتدبر في شؤون الحياة ـ السياحة في بلاد الله ـ التفرغ للعبادات والأسرة، والتواصل مع الأهل والمعارف والأصدقاء ـ التفكير في القيام بأعمال ومبادرات ومشاريع مفيدة ـ الاهتمام بالصحة وممارسة الرياضة… إلخ. بحق لقد أشعرني التقاعد بأنني ولدت من جديد، شعور افتقدته وما توقعت وأنا أخطو خطواتي الأولى أن أبلغ هذه السعادة، وما أجمل أن يستدرك الإنسان نفسه وهو لا يزال يحتفظ بشيء من صحته وحيويته وبعض من شبابه فيتفرغ لكل ما أشرت إليه، الصلاة جماعة، وقراءة آيات من القرآن في سعة من الوقت ـ زيارة مقهى حديث يطل على البحر واحتساء فنجان من القهوة مع كتاب لا يشعر معه القارئ بالوقت ـ ممارسة الرياضة على شاطئ البحر ـ السياحة الداخلية أو الخارجية، ومشاهدة عجائب هذا الكون والاستمتاع بالمواقع الخلابة والمعالم الحضارية ـ التسكع في مركز تجاري أو في سوق مطرح والحواري القديمة وقرى وأودية وجبال عمان ـ افتراش رملة ناعمة في بطن وادٍ أثناء جريانه بعد المطر ـ إعداد مقالي الأسبوعي والشعور الجميل بعد الانتهاء من كتابته ـ تصفح الكتب والإبحار في صفحاتها في مكتبتي الثرية ـ مشاهدة فيلم ممتع ـ تبادل الذكريات وأحاديث الماضي مع الأقرباء والأصدقاء ـ زيارة قريتي الجميلة (المضيرب) متى ما أشاء، دون أن يقيدني حضور وانصراف أو يقلقني اتصال صباحي أو مسائي من مسؤول يكلفني بعمل يصرف تفكيري عما عداه، أو ترفع ضغطي مذكرة استفسار عن أسباب تأخيري أو انصرافي المبكر، أو يأتيني اتصال مزعج من زميل يبلغني عن موقف وقصص تحدث في العمل تعكر المزاج… إنها مرحلة جديدة من الحرية تفرغت فيها وتمكنت من أن أوثق لمقالاتي وأطبعها وأنشرها في خمسة كتب تجاوز أحدها الألف صفحة، وهي: (مقالات في الثقافة والفكر ـ الشورى والتطلعات المجتمعية والدروس المستقاة ـ أرض عمان: مشاهدات وخلاصات ـ الشورى والتنمية، وقراءات في المشهد الوطني)، وأن أمضي اتفاقا مع هيئة تحرير جريدة لوسيل القطرية لإعداد ونشر مقال أسبوعي في المجال الاقتصادي أخذني إلى آفاق جديدة من الكتابة والتواصل والعلاقات والخبرة والمتعة إلى جانب استمراري في إعداد مقالي في هذه الجريدة الغراء (الوطن)، ونشر مقالات متفرقة في مجلات أخرى محلية، منها على سبيل المثال: (الثقافية ـ شرق غرب ـ شرفات المجلس ـ مجلة الحرس…)، وإعداد هذا المشروع التوثيقي الذي أخذ مني عاما كاملا، ونجاحي في تحسين دخلي، والتفكير والبدء في وضع إطار لمشاريع كتابية جديدة ـ بمشيئة الله. وبصدق فقد حصلت على عدد من العروض في مجال كتابة المقال الصحفي أو التقارير الإعلامية، أو العمل بعقد من مؤسسات داخلية وخارجية، ولكني خفت من أن أزحم نفسي وتعود (حليمة إلى عادتها القديمة)، فأفسد علي تقاعدي وأيامه السعيدة، وفضلت أن أستمتع بحياتي الجميلة ما دام دخلي يكفيني لمعيشتي، فأن ينام الواحد بعمق، وأن يسترخي في منامته الوثيرة دون أن ينتظره صباح يضيع فيه في متاهات زحمة السيارات وحوادثها وشوارعها الطويلة والقصيرة الرئيسة والفرعية، وضغط الدقائق والثواني والأوراق والملفات والاجتماعات والتكليفات والمراجعات ووجوه وأساليب وممارسات وصور لا أطيقها ولا أتحملها، ورتابة حياة مملة لا تتغير فلا جديد فيها، نعمة لا تضاهيها نعمة. فالشكر كل الشكر لله ـ عز وجل ـ أن هداني لهذا القرار، ووفقني إلى ما أنا فيه من نعمة جليلة .. فما أجمل القناعة وأروع الحياة لمن شكر وتأمل وتدبر ووظف الدروس، واستطاع أن يفك شفرة السعادة والأمل، وأن يستمتع بما يملك وإن كان قليلا. التقاعد مرحلة أساسية من مراحل العمر، علينا أن نستعد لها، ونتعامل معها كشيء لا مناص عنه، إنها فضاء واسع من الحرية والاستمتاع بمباهج الحياة، التي لا تتوقف ولا تنتهي ببلوغنا التقاعد، فيما نبدأ حياة جديدة مليئة بالطموحات والتطلعات والآمال والهوايات والنشاط والسعادة، فاستمتعوا بحياتكم الجميلة أيها المتقاعدون وأهلا بكم في نادي التقاعد.

سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com


المصدر: اخبار جريدة الوطن

عن المشرف العام

التعليقات مغلقة

إلى الأعلى