خاض العديد من بلدان العالم معركة إيجاد نظام دولي أكثر عدالة، نظام يوسع من مفهوم جرائم الحرب من القتل والإبادة والتعذيب والتهجير والإبعاد والاستبعاد والإرهاب والاعتقال غير الشرعي والاضطهاد، لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية، سواء كانت فردية أو جماعية، ويلحق بهذه الأعمال الشبيهة بها التي تقترف ضد المدنيين في المناطق المحتلة، لتصل إلى جرائم الاحتلال وسرقة ثروات الدول، وإهدار حقوقها، فقد أعطى القانون الحق للدول في التعويض عن سنوات احتلالها، حيث أكدت العديد من الاتفاقيات والقرارات الدولية هذا الحق بعدما اعتبرت الاحتلال جريمة دولية، ورتبت عليها المسئولية الدولية الجنائية، وكل ذلك جاء نتيجة مبدأ تحريم استخدام القوة في العلاقات الدولية المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، وعلى مبدأ تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وهذان مبدآن من المبادئ العامة/الآمرة في القانون الدولي، وهذه المبادئ لا يجوز مخالفتها.
إلا أن ذلك لم يتحول إلى إجراءات قانونية ملزمة، وذلك رغم وجود نص ملزم يقول (يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق وأهداف الأمم المتحدة)، وجرمت المحكمة الجنائية الدولية في نظامها الأساسي في المادة (27) منه، ومن قبل نصت المادة (25) من ذات النظام الأساسي على المسئولية الدولية الجنائية للأفراد، حيث اعتبر الاحتلال جريمة دولية من جرائم الحرب التي يجب محاكمة من قام بها حتى رؤساء الدول لم يعد لهم حصانة من ذلك.
وبرغم تلك القوانين إلا أن الحماية الدولية، الرافضة لتفعيل تلك المواد عبر اعتماد جريمة العدوان كإحدى الجرائم التي تقع تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، حيث تحمل جريمة العدوان في تعريفها للاحتلال الأجنبي كجريمة، وهذا ينطبق على الاحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين، الذي يعد أكبر وأطول احتلال في التاريخ لا يزال ذلك يحول دون حصول مجرمي كيان الاحتلال الإسرائيلي على الجزاء العادل، ولا حتى يؤدي إلى انتهاء هذا الاحتلال البغيض، وذلك رغم ثبوت الجرائم الإسرائيلية في الاحتلال وسرقة الأراضي والثروات والقتل الممنهج، والإبعاد والترحيل القسري منذ نشأة كيان الاحتلال وحتى مرحلة هدم بيوت المقدسيين وترحيلهم التي نعيشها الآن، وذلك إمعانًا في تنفيذ سياساته الاستيطانية التهويدية للأرض الفلسطينية المحتلة، واستكمالًا لمخططاته الهادفة إلى إفشال الحل التفاوضي للصراع، وسد الباب بشكل نهائي على حل الدولتين.
تعد المعضلة الرئيسية في ملاحقة هذا الكيان رغم انضمام فلسطين لتفعيل تعديلات “كمبالا” لنظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من أن اختصاص المحكمة في جريمة العدوان يسري فقط على الدول الأعضاء في الميثاق والمصادِقة عليه، ولا يمكن بناء عليه ملاحقة “إسرائيل” قضائيًّا، إلا أن الميثاق صنّف “العمل العدواني” ومن ضمنه الاحتلال العسكري على أنه جريمة، وبالتالي يمكن إدراج الاحتلال الإسرائيلي كجريمة عدوان، ومن ثم ملاحقة ومساءلة مرتكبي أخطر الجرائم التي تهدد أمن المجتمع الدولي بمن فيهم مجرمو الحرب الإسرائيليون بدلًا من رفع شكاوى جزئية مثل ارتكاب جرائم حرب خلال الحرب الأخيرة على غزة، أو شكوى ضد الاستيطان.
إن إقرار جريمة العدوان تصطدم مع نظام عالمي يخشى من ملاحقته، نظرًا لأن معظم الدول المسيطرة، كانت أو لا تزال تحتل دولًا أخرى، وأن فتح هذا الباب قد يفتح للدول الضحايا بالمطالبة بتعويضات كبيرة عن ما عاشته في ظل الاحتلال الاستعماري الغربي، بالإضافة إلى أن تجريم الاعتداء قد يصب في ملاحقة الجنائية الدولية لـ”إسرائيل”، الدولة المدللة لدى الغرب؛ لذا فعلى دول العالم الثالث تقبل أن تظل الجنائية الدولية تطارد رئيس إحدى الدول لا تسير وفق توجهات قادة النظام العالمي، أما من يسير في هذا الإطار فمرفوع عنه الحرج، ويحق له أن يقتل ويسرق ويهجر ويرتكب جرائم الإبادة الجماعية!!!