كلما طال الضغط على الفلسطينيين وتجاهُلُ حقوقهم المشروعة، ازداد المتطرفون تطرفًا وعنفًا وطوروا تطرفهم إلى العنصرية والتمزيق ونوع من الإرهاب المنظم على غرار ما نشاهده اليوم من استيطان ينتشر كالسرطان وحصار ظالم ومذابح وتهجير وجدران عنصرية وفرض شروط تعجيزية في مواجهة متطلبات عملية السلام والهروب إلى الأمام لعدم الرغبة في الوفاء بها.
هذه الحقائق تطرح نفسها كل يوم ليس أمام المعنيين بقضايا الشرق الأوسط وبخاصة الصراع العربي ـ الصهيوني وحدهم، وإنما أمام الفلسطينيين أنفسهم بمختلف مكوناتهم وفصائلهم واتجاهاتهم.
ولأن ذاكرة العالم ضعيفة وتضعف أكثر كلما اقترب بذاكرته من حلبة الصراع في الشرق الأوسط فإننا نذكر بالمواقف التي تبسطت فيها عواصم داعمة لكيان الاحتلال الصهيوني على رأسها الولايات المتحدة في مواجهة التطرف الصهيوني وبخاصة منذ قررت الإدارة الأميركية في مطلع التسعينيات تغيير الموقف وإعادة ترتيب الأوضاع في الأولويات الخارجية بادئة بعلاقاتها مع حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني فالتقى بوش الأب بإسحاق شامير طالبًا بوضع حد للتوسع الاستعماري، لكن الصهاينة كانوا يتعاملون مع مثل هذه المطالب ـ بغض النظر عن جديتها ـ بأُذن من طين وأخرى من عجين، فاستمرأوا اغتصاب الحقوق الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني وعزله في كانتونات.
وما هو مؤكد الآن أن كيان الاحتلال الصهيوني ليس فقط يبني مغتصبات جديدة بعد أن (خدر) العالم بزعم وجوب مواكبة النمو السكاني لقطعان المستوطنين، بل بادر ويبادر إلى الترتيب للاستمرار في التهام الضفة الغربية بالكامل وتهويد مدينة القدس بالكامل أيضًا بوسائل تحايلية، كما هو حال التحرك العدواني المثير للاستفزاز بإقامة جدار الفصل العنصري تحت كذبة حماية “إسرائيل” من هجمات “الإرهابيين” الفلسطينيين ومنع تسللهم والذي يدور حوله حاليًّا جدل كبير داخل كيان الاحتلال بسبب إتيانه على قرية بتير ذات الآثار الرومانية والتي من المحتمل إدراجها على لائحة التراث الإنساني العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو). فالهدف من تغول هذا الجدار العنصري هو جغرافي بسرقة الأرض الفلسطينية وما تختزنه من ماء وفير وقطع الطريق على أي احتمالات بإقامة دولة فلسطينية مستقلة متصلة جغرافيًّا، وكذلك هدف اجتماعي حيث يسعى كيان الاحتلال الصهيوني إلى تمزيق الأسر الفلسطينية ومنع تقاربها وتواصلها في إطار سياسة التطهير العرقي والتهجير التي يمارسها بحق الشعب الفلسطيني، فكم هو مؤلم أن يتردد على مسامع هذا العالم الذي يدَّعي الحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان أصوات الأطفال الفلسطينيين المحرومين من لقاء أمهاتهم وآبائهم وذويهم، وكم هو متبلد ضمير هذا العالم المدَّعي للحرية عن الاستجابة للنداءات البريئة للطفولة الفلسطينية المعذبة “بدي بابا يرجع على البيت” التي خرجت من بين ثنايا نورا أبو القرايا ذات الأحد عشر عامًا، والتي أطلقت نداء استغاثتها علها تجد صدى لها يساعد والدها الذي منعته سلطات الاحتلال الصهيوني من الوصول إلى عائلته المكونة من خمسة أفراد في مخيم الفارعة بقضاء نابلس بالضفة الغربية، والذي يحرمه أعداء الإنسانية من فلذة كبده لا لجرم أو عملية نفذها ضد الاحتلال وإنما ذنبه الوحيد أنه قرر زيارة أهله في قطاع غزة في مايو الماضي عبر معبر بيت حانون “إيريز”، لتمنعه سلطات الاحتلال الصهيوني بعد ذلك من العودة لمنزله بالضفة الغربية.
إن هذه المآسي يتحمل جزءًا من مسؤوليتها حتمًا الإدارات الأميركية التي لم تكن يومًا حازمة في موقفها على امتداد تاريخ الصراع، وكذلك المجتمع الدولي، ولكن الجزء الأكبر يتحمله الفلسطينيون أنفسهم الذين أتاحوا بانقسامهم الفرصة تلو الفرصة لعدوهم لينهب حقوقهم ويمزق شملهم، الأمر الذي يرتب عليهم دورًا مهمًّا يتركز حول حتمية تعزيز الوحدة الوطنية والالتفاف حول القيادة الموحدة الممثلة في السلطة الوطنية المنتخبة، وتعلية المصالح العليا للشعب الفلسطيني على النظرة الذاتية أو (التنظيمية)، ونبذ الانقسام وتحقيق المصالحة.